لا تنكر قوة ماضيك
سواء كان لدينا ماضي مثالي ملئ بالمرح والضحك والحب، أو كان مفعم بالحزن والألم، أو مزيج من ذلك وذاك، بعضنا لا يعرف كيف يتعامل مع ذلك الماضي. والأسوأ هو ما نسمعه من نصائح معلبة تحثنا على نسيان الماضي. أخذتني هذه الأفكار عندما كنت أقرأ عن بعض مشاكل الذاكرة التي قد يعاني منها كبار السن، وكيف أنه في حالات تكون أقدم الذكريات أقواها حضورا في عقل المسن. وهذا قادني لما يقال لنا وتشجيعنا على إنكار قوة ماضينا، بل ودفعنا للاستمرار في الحياة دون التوقف للتفكر في كل الأحداث التي حدثت لنا والتعامل معها، وتفصيصها كما نفصص قرون البازلاء لنستخرج الحبات الخضراء المتلألئة. لكننا نختلف في أمور كثيرة ... بعضنا يسمح لماضنا أن يعوقنا، بينما ينجح بعضنا في استغلال ماضينا كمصدر إلهام ودفعنا إلى الأمام.
أخبرتني صديقتي التي مرت بتجربة زواج مريرة كيف وجدت نفسها امرأة مطلقة مسئولة عن تربية ثلاث أطفال بمفردها. وبدلا من أن تتصرف مثل جميع المطلقات في مجتمعها، قررت أن تتخلى عن أطفالها، وأن تلتحق بالجامعة للحصول على رسالة الماجستير وأن تجد عملا مميزا لنفسها. ألهبها الجميع بسياط اللوم حتى أقرب الناس اليها، كانت بالنسبة لهم أنانية ولا تستحق الحياة لأنها تخلت عن أبناءها وسعت لتحقيق حلم شخصي. وهي نفسها عانت كثيرا من العذاب النفسي الذي كان جزءا من الثمن الذي دفعته لتحقيق حلمها. لكنها كانت حريصة على زيارة أطفالها وأن تشرح لهم لماذا اتخذت هذه الخطوة. بعد عدة سنوات، بعد أن حققت ما أرادت ونالت الشهادة الأكاديمية التي حلمت بها وترقت في وظيفتها واستطاعت توفير حياة رغدة لأبنائها، كانت لا تزال تعاني من تأنيب الضمير وألسنة من حولها اللاذعة. ولم يساعدها مرور الزمن على التعافي من الجروح النفسية التي خلفها زواجها القاسي.
كل منا أعلم بمصدر قوته وما الذي يهدرها، لكننا لا نمنح أنفسنا الوقت للتوقف والتفكر، كما أننا لا نمنح أنفسنا الوقت أو نسمح لأنفسنا أن نحلل قوة الماضي وتأثيره علينا. وبدلا من ذلك ننكر قوة الماضي وخبراتنا السابقة مع أن حياتنا عبارة على تسلسل لحدث تلو الآخر. ورغم أننا نمر بمراحل مختلفة، هناك تلك المساحات الرمادية بين المرحلة والأخرى والتي يكون لها أعظم تأثير على جودة حياتنا.
ولأننا نتشدق كثيرا بمقولات تشبه مقولة "كل ما يفعل، يفعل لخير"، أو "لحكمة لا يعلمها إلا الله"، فإننا دائما ما نضيف الطلاسم على الواقع، فتفوتنا الدروس والعبر لنكرر الأخطاء ذاتها مرارا وتكرارا. فالتصرف الذي تصرفناه أو الكلام الذي قلناه أو الاختيار الذي استقرينا عليه، كان سببا في تحويل مسار حياتنا لفترة محددة في اتجاه معين، ثم يتغير هذا الاتجاه مرة أخرى وفقا لتصرف أو كلام أو اختيار جديد. فتكون حياتنا إما سلسلة من المراحل المتعاقبة والتي تختلف كل مرحلة عما تلتها، أو تكون يوما واحدا نعيشه مرارا وتكرارا ونصبح كسيسيفوس الذي حكمت عليه الآلهة الإغريقية بدفع صخرة لأعلى الجبل ويدعها لتتدحرج للوادي ليكرر ذلك العمل كل يوم في أبدية مرهقة مملة ولا طائل لها.
لكننا إن قررنا العثور على عبقرياتنا المفقودة في ثنيات عمرنا الفائت لفتحنا لأنفسنا "طاقة القدر." وللأسف لعب دور الضحية أمام أنفسنا أسهل من ايقاظ ذلك الجني اللعوب الذي رزقنا به ونحن أطفالا قبل أن يجبرنا العالم من حولنا على حبسه داخل قمقم والختم عليه بنحاس مصهور. وبمجرد أن ننتهي من تمثيل دور الضحية سيتغير كل شيء ولن نجد ما نخبئ فيه ابداعاتنا. لكن البعض منا يحب التسكع في قصة مهترئة الحشايا.
ويقول العلماء أن الإنسان دائم البحث عما هو مألوف، لأننا إن وجدنا شيئا جديدا فعلينا بذل مجهود لتعلمه، أو أن نتغير، وهذا يجعل بعضنا يضطرب. وإن كنت بمفردك في عالمك المألوف، هذا حسن ... لكن إذا كنت مع من يريد التغيير فحظك وحظه عاثرين.
وكما أننا ننكر قوة الماضي، فإننا ننكر قوة الفشل. ببساطة، يكون الفشل موضوعا شيقا في حوار مع أحد الناجحين الذين حولوا فشلهم إلى قوة دافعة، بينما إذا كنت سجينا مع إنسان فاشل في حياة ما، فلن يكون الأمر مثيرا أو ممتعا. وأنا شخصيا أحب كتابة القوائم، ومنها قائمة أحتفظ بها تجمع كل إخفاقاتي من أبسطها إلى أشدها تدميرا أو تأثيرا على حياتي. وهذه القائمة كم ساعدتني لأقوم من عثرة وأنفض الغبار عن نفسي وأمضي في طريقي أو أعبد لنفسي طريقا آخر. وأبدا لم أغلق فصلا من فصول حياتي قبل أن أحلله وأعد نفسي وعدا غليظا ألا أقع في نفس الخطأ مرة أخرى. وليس من المهم أين أنا من هدفي بقدر ما هو مهم أن أقترب اليوم منه أكثر مما فعلت بالأمس.
وإن اعتمدت فقط على من حولك من أقارب أو أصدقاء، فأنت في وضع بائس. فالوصفة السحرية للنجاح بها عدة عناصر أغلبها تتعلق بك، والنذر القليل يتعلق بالآخرين. وإن كنت لا تعرف إلى أين أنت ذاهب، فخذ أي طريق أو اتبع أي مسار. لكن اعرف أنك في هذا الطريق وحدك ما لم يمن عليك الرحمن بشريك حياة طريقه هو نفس طريق فيصحبك.
وللأسف قد يدفعنا إنكار قوة ماضينا إلى الإدمان، أو تلك الاعتمادية على شيء ما لإلهاء عقولنا ووضعها في حالة خدر شبه دائم. ربما يكون الطعام هو إدماننا، أو الحزن، أو حالة من الحداد الدائم على فرص ضائعة، أو عشق من يؤذوننا. وهذا الإدمان، يعمي أبصارنا عن عبقرياتنا – نعم الجميع عبقري. وبهذا نظل عالقين في دائرة جهنمية من قرع الذات أو الأسوأ، قرع من حولنا.